سورة طه - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (طه)


        


{إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16)}
اعلم أنه تعالى لما خاطب موسى عليه السلام بقوله: {فاعبدني وأقم الصلاة لذكري} [طه: 14] أتبعه بقوله: {إِنَّ الساعة ءاتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} وما أليق هذا بتأويل من تأول قوله: {لِذِكْرِى} أي لأذكرك بالأمانة والكرامة فقال عقيب ذلك: {إِنَّ الساعة ءاتِيَةٌ} لأنها وقت الإثابة ووقت المجازاة ثم قال: {أَكَادُ أُخْفِيهَا} وفيه سؤالان:
السؤال الأول: هو أن كاد نفيه إثبات وإثباته نفي بدليل قوله: {وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71] أي وفعلوا ذلك فقوله: {أَكَادُ أُخْفِيهَا} يقتضي أنه ما أخفاها وذلك باطل لوجهين، أحدهما: قوله: {إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة} [لقمان: 34].
والثاني: أن قوله: {لِتَجْزِىَ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى} إنما يليق بالإخفاء لا بالإظهار.
والجواب: من وجوه، أحدها: أن كاد موضوع للمقاربة فقط من غير بيان النفي والإثبات فقوله: {أَكَادُ أُخْفِيهَا} معناه قرب الأمر فيه من الإخفاء وأما أنه هل حصل ذلك الإخفاء أو ما حصل فذلك غير مستفاد من اللفظ بل من قرينة قوله: {لتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى} فإن ذلك إنما يليق بالإخفاء لا بالإظهار.
وثانيها: أن كاد من الله واجب فمعنى قوله: {أَكَادُ أُخْفِيهَا} أي أنا أخفيها عن الخلق كقوله: {عسى أَن يَكُونَ قَرِيبًا} [الإسراء: 51] أي هو قريب قاله الحسن.
وثالثها: قال أبو مسلم: {أَكَادُ} بمعنى أريد وهو كقوله: {كذلك كِدْنَا لِيُوسُفَ} [يوسف: 76] ومن أمثالهم المتداولة لا أفعل ذلك ولا أكاد أي ولا أريد أن أفعله.
ورابعها: معناه: {أَكَادُ أُخْفِيهَا} من نفسي وقيل إنها كذلك في مصحف أبي وفي حرف ابن مسعود: {أَكَادُ أُخْفِيهَا} من نفسي فكيف أعلنها لكم قال القاضي هذا بعيد لأن الإخفاء إنما يصح فيمن يصلح له الإظهار وذلك مستحيل على الله تعالى لأن كل معلوم معلوم له فالإظهار والإسرار منه مستحيل، ويمكن أن يجاب عنه بأن ذلك واقع على التقدير يعني لو صح مني إخفاؤه على نفسي لأخفيته عني والإخفاء وإن كان محالاً في نفسه إلا أنه لا يمتنع أن يذكر ذلك على هذا التقدير مبالغة في عدم إطلاع الغير عليه، قال قطرب: هذا على عادة العرب في مخاطبة بعضهم بعضاً يقولون: إذا بالغوا في كتمان الشيء كتمته حتى من نفسي فالله تعالى بالغ في إخفاء الساعة فذكره بأبلغ ما تعرفه العرب في مثله.
وخامسها: {أَكَادُ} صلة في الكلام والمعنى: إن الساعة آتية أخفيها، قال زيد الخيل:
سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه *** فما إن يكاد قرنه يتنفس
والمعنى فما يتنفس قرنه.
وسادسها: قال أبو الفتح الموصلي {أَكَادُ أُخْفِيهَا} تأويله أكاد أظهرها وتلخيص هذا اللفظ أكاد أزيل عنها إخفاءها لأن أفعل قد يأتي بمعنى السلب والنفي كقولك أعجمت الكتاب وأشكلته أي أزلت عجمته وإشكاله وأشكيته أي أزلت شكواه.
وسابعها: قرئ أخفيها بفتح الألف أي أكاد أظهرها من خفاه إذا أظهره أي قرب إظهاره كقوله: {اقتربت الساعة} [القمر: 1] قال امرؤ القيس:
فإن تدفنوا الداء لا نخفه *** وإن تمنعوا الحرب لا نقعد
أي لا نظهره قال الزجاج وهذه القراءة أبين لأن معنى أكاد أظهرها يفيد أنه قد أخفاها.
وثامنها: أراد أن الساعة آتية أكاد وانقطع الكلام ثم قال أخفيها ثم رجع الكلام الأول إلى أن الأولى الإخفاء: {لتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى} وهذا الوجه بعيد، والله أعلم.
السؤال الثاني: ما الحكمة في إخفاء الساعة وإخفاء وقت الموت؟
الجواب: لأن الله تعالى وعد قبول التوبة فلو عرف وقت الموت لاشتغل بالمعصية إلى قريب من ذلك الوقت ثم يتوب فيتخلص من عقاب المعصية فتعريف وقت الموت كالإغراء بفعل المعصية، وإنه لا يجوز.
أما قوله: {لتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى} ففيه مسائل:
المسألة الأولى: أنه تعالى لما حكم بمجيء يوم القيامة ذكر الدليل عليه وهو أنه لولا القيامة لما تميز المطيع عن العاصي والمحسن عن المسيء وذلك غير جائز وهو الذي عناه الله تعالى بقوله: {أَمْ نَجْعَلُ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كالمفسدين فِي الأرض أَمْ نَجْعَلُ المتقين كالفجار} [ص: 28].
المسألة الثانية: احتجت المعتزلة بهذه الآية على أن الثواب مستحق على العمل لأن الباء للالصاق فقوله: {بِمَا تسعى} يدل على أن المؤثر في ذلك الجزاء هو ذلك السعي.
المسألة الثالثة: احتجوا بها على أن فعل العبد غير مخلوق لله تعالى وذلك لأن الآية صريحة في إثبات سعي العبد ولو كان الكل مخلوقاً لله تعالى لم يكن للعبد سعي ألبتة أما قوله: {فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا} فالصد المنع وهاهنا مسائل:
المسألة الأولى: في هذين الضميرين وجهان. أحدهما: قال أبو مسلم لا يصدنك عنها أي عن الصلاة التي أمرتك بها من لا يؤمن بها أي بالساعة فالضمير الأول عائد إلى الصلاة والثاني إلى الساعة ومثل هذا جائز في اللغة فالعرب تلف الخبرين ثم ترمي بجوابهما جملة ليرد السامع إلى كل خبر حقه.
وثانيهما: قال ابن عباس فلا يصدنك عن الساعة أي عن الإيمان بمجيئها من لا يؤمن بها فالضميران عائدان إلى يوم القيامة.
قال القاضي: وهذا أولى لأن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورين وهاهنا الأقرب هو الساعة وما قاله أبو مسلم فإنما يصار إليه عند الضرورة ولا ضرورة هاهنا.
المسألة الثانية: الخطاب في قوله: {فَلاَ يَصُدَّنَّكَ} يحتمل أن يكون مع موسى عليه السلام وأن يكون مع محمد صلى الله عليه وسلم والأقرب أنه مع موسى لأن الكلام أجمع خطاب له وعلى كلا الوجهين فلا معنى لقول الزجاج إنه ليس بمراد وإنما أريد به غيره وذلك لأنه ظن أن النبي صلى الله عليه وسلم لما لم يجز عليه مع النبوة أن يصده أحد عن الإيمان بالساعة لم يجز أن يكون مخاطباً بذلك وليس الأمر كما ظن، لأنه إذا كان مكلفاً بأن لا يقبل الكفر بالساعة من أحد وكان قادراً على ذلك جاز أن يخاطب به ويكون المراد هو وغيره، ويحتمل أيضاً أن يكون المراد بقوله: {فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا} النهي له عن الميل إليهم ومقاربتهم.
المسألة الثالثة: المقصود نهي موسى عليه السلام عن التكذيب بالبعث ولكن ظاهر اللفظ يقتضي نهي من لم يؤمن عن صد موسى عليه السلام وفيه وجهان، أحدهما: أن صد الكافر عن التصديق بها سبب للتكذيب فذكر السبب ليدل على المسبب.
والثاني: أن صد الكافر مسبب عن رخاوة الرجل في الدين فذكر المسبب ليدل حمله على السبب كقوله: لا أرينك هاهنا المراد نهيه عن مشاهدته والكون بحضرته، فكذا هاهنا كأنه قيل: لا تكن رخواً بل كن في الدين شديداً صلباً.
المسألة الرابعة: الآية تدل على أن تعلم علم الأصول واجب لأن قوله: {فَلاَ يَصُدَّنَّكَ} يرجع معناه إلى صلابته في الدين وتلك الصلابة إن كان المراد بها التقليد لم يتميز المبطل فيه من المحق فلابد وأن يكون المراد بهذه الصلابة كونه قوياً في تقرير الدلائل وإزالة الشبهات حتى لا يتمكن الخصم من إزالته عن الدين بل هو يكون متمكناً من إزالة المبطل عن بطلانه.
المسألة الخامسة: قال القاضي قوله: {فَلاَ يَصُدَّنَّكَ} يدل على أن العباد هم الذين يصدون ولو كان تعالى هو الخالق لأفعالهم لكان هو الصاد دونهم فدل ذلك على بطلان القول بالجبر، والجواب: المعارضة بمسألة العلم والداعي، والله أعلم، أما قوله تعالى: {واتبع هَوَاهُ} فالمعنى أن منكر البعث إنما أنكره اتباعاً للهوى لا لدليل وهذا من أعظم الدلائل على فساد التقليد لأن المقلد متبع للهوى لا الحجة أما قوله: {فتردى} فهو بمعنى ولا يصدنك فتردى وإن صدوك وقبلت فليس إلا الهلاك بالنار.
واعلم أن المتوغلين في أسرار المعرفة قالوا: المقام مقامان. أحدهما: مقام المحو والفناء عما سوى الله تعالى.
والثاني: مقام البقاء بالله والأول مقدم على الثاني لأن من أراد أن يكتب شيئاً في لوح مشغول بكتابة أخرى فلا سبيل له إليه إلا بإزالة الكتابة الأولى ثم بعد ذلك يمكن إثبات الكتابة الثانية والحق سبحانه راعى هذا الترتيب الحسن في هذا الباب لأنه قال لموسى عليه السلام اولا: {فاخلع نَعْلَيْكَ} وهو إشارة إلى تطهير السر عما سوى الله تعالى ثم بعد ذلك أمره بتحصيل ما يجب تحصيله وأصول هذا الباب ترجع إلى ثلاثة: علم المبدأ وعلم الوسط وعلم المعاد، فعلم المبدأ هو معرفة الحق سبحانه وتعالى وهو المراد بقوله: {إِنَّنِى أَنَا الله لا إله إِلا أَنَاْ} [طه: 14] وأما علم الوسط فهو علم العبودية ومعناها الأمر الذي يجب أن يشتغل الإنسان به في هذه الحياة الجسمانية وهو المراد بقوله: {فاعبدني وأقم الصلاة لذكري} [طه: 14] ثم في هذا أيضاً تعثر لأن قوله: {فاعبدني} إشارة إلى الأعمال الجسمانية وقوله: {لِذِكْرِي} إشارة إلى الأعمال الروحانية والعبودية أولها الأعمال الجسمانية وآخرها الأعمال الروحانية وأما علم المعاد فهو قوله: {إِنَّ الساعة ءَاتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} ثم إنه تعالى افتتح هذه التكاليف بمحض اللطف وهو قوله: {إِنّى أَنَاْ رَبُّكَ} [طه: 12] واختتمها بمحض القهر وهو قوله: {فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا واتبع هَوَاهُ فتردى} تنبيهاً على أن رحمته سبقت غضبه وإشارة إلى أن العبد لابد له في العبودية من الرغبة والرهبة والرجاء والخوف، وعند الوقوف على هذه الجملة تعرف أن هذا الترتيب هو النهاية في الحسن والجودة وأن ذلك لا يتأتى إلا من العالم بكل المعلومات.


{وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21)}
اعلم أن قوله: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ} لفظتان، فقوله: {وَمَا تِلْكَ} إشارة إلى العصا، وقوله: {بِيَمِينِكَ} إشارة إلى اليد، وفي هذا نكت، إحداها: أنه سبحانه لما أشار إليهما جعل كل واحدة منهما معجزاً قاهراً وبرهاناً باهراً، ونقله من حد الجمادية إلى مقام الكرامة، فإذا صار الجماد بالنظر الواحد حيواناً، وصار الجسم الكثيف نورانياً لطيفاً، ثم إنه تعالى ينظر كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة إلى قلب العبد، فأي عجب لو انقلب قلبه من موت العصيان إلى سعادة الطاعة ونور المعرفة.
وثانيها: أن بالنظر الواحد صار الجماد ثعباناً يبتلع سحر السحرة، فأي عجب لو صار القلب بمدد النظر الإلهي بحيث يبتلع سحر النفس الأمارة بالسوء.
وثالثها: كانت العصا في يمين موسى عليه السلام فبسبب بركة يمينه انقلبت ثعباناً وبرهاناً، وقلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن فإذا حصلت ليمين موسى عليه السلام هذه الكرامة والبركة، فأي عجب لو انقلب قلب المؤمن بسبب إصبعي الرحمن من ظلمة المعصية إلى نور العبودية، ثم هاهنا سؤالات: الأول: قوله: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى} سؤال، والسؤال إنما يكون لطلب العلم وهو على الله تعالى محال فما الفائدة فيه.
والجواب فيه فوائد: إحداها: أن من أراد أن يظهر من الشيء الحقير شيئاً شريفاً فإنه يأخذه ويعرضه على الحاضرين ويقول لهم: هذا ما هو؟ فيقولون هذا هو الشيء الفلاني ثم إنه بعد إظهار صفته الفائقة فيه يقول لهم خذا منه كذا وكذا. فالله تعالى لما أراد أن يظهر من العصا تلك الآيات الشريفة كانقلابها حية، وكضربه البحر حتى انفلق، وفي الحجر حتى انفجر منه الماء، عرضه أولاً على موسى فكأنه قال له: يا موسى هل تعرف حقيقة هذا الذي بيدك وأنه خشبة لا تضر ولا تنفع، ثم إنه قلبه ثعباناً عظيماً، فيكون بهذا الطريق قد نبه العقول على كمال قدرته ونهاية عظمته من حيث إنه أظهر هذه الآيات العظيمة من أهون الأشياء عنده فهذا هو الفائدة من قوله: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى}.
وثانيها: أنه سبحانه لما أطلعه على تلك الأنوار المتصاعدة من الشجرة إلى السماء وأسمعه تسبيح الملائكة ثم أسمعه كلام نفسه، ثم إنه مزج اللطف بالقهر فلاطفه أولاً بقوله: {وَأَنَا اخترتك} ثم قهره بإيراد التكاليف الشاقة عليه وإلزامه علم المبدأ والوسط والمعاد ثم ختم كل ذلك بالتهديد العظيم، تحير موسى ودهش وكاد لا يعرف اليمين من الشمال فقيل له: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى} ليعرف موسى عليه السلام أن يمينه هي التي فيها العصا، أو لأنه لما تكلم معه أولاً بكلام الإلهية وتحير موسى من الدهشة تكلم معه بكلام البشر إزالة لتلك الدهشة والحيرة، والنكتة فيه أنه لما غلبت الدهشة على موسى في الحضرة أراد رب العزة إزالتها فسأله عن العصا وهو لا يقع الغلط فيه.
كذلك المؤمن إذا مات ووصل إلى حضرة ذي الجلال فالدهشة تغلبه والحياء يمنعه عن الكلام فيسألونه عن الأمر الذي لم يغلط فيه في الدنيا وهو التوحيد، فإذا ذكره زالت الدهشة والوحشة عنه.
وثالثها: أنه تعالى لما عرف موسى كمال الإلهية أراد أن يعرفه نقصان البشرية، فسأله عن منافع العصا فذكر بعضها فعرفه الله تعالى أن فيها منافع أعظم مما ذكر، تنبيهاً على أن العقول قاصرة عن معرفة صفات النبي الحاضر فلولا التوفيق والعصمة كيف يمكنهم الوصول إلى معرفة أجل الأشياء وأعظمها.
ورابعها: فائدة هذا السؤال أن يقرر عنده أنه خشبة حتى إذا قلبها ثعباناً لا يخافها.
السؤال الثاني: قوله: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى} خطاب من الله تعالى مع موسى عليه السلام بلا واسطة، ولم يحصل ذلك لمحمد صلى الله عليه وسلم فيلزم أن يكون موسى أفضل من محمد. الجواب من وجهين:
الأول: أنه تعالى كما خاطب موسى فقد خاطب محمداً عليه السلام في قوله: {فأوحى إلى عَبْدِهِ مَا أوحى} [النجم: 10] إلا أن الفرق بينهما أن الذي ذكره مع موسى عليه السلام أفشاه الله إلى الخلق، والذي ذكره مع محمد صلى الله عليه وسلم كان سراً لم يستأهل له أحد من الخلق.
والثاني: إن كان موسى تكلم معه وهو تكلم مع موسى فأمة محمد صلى الله عليه وسلم يخاطبون الله في كل يوم مرات على ما قال صلى الله عليه وسلم: «المصلي يناجي ربه» والرب يتكلم مع آحاد أمة محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة بالتسليم والتكريم والتكليم في قوله: {سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ} [يس: 58].
السؤال الثالث: ما إعراب قوله: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى} الجواب، قال صاحب الكشاف: (تلك بيمينك) كقوله: {وهذا بَعْلِي شَيْخًا} [هود: 72] في انتصاب الحال بمعنى الإشارة ويجوز أن يكون تلك اسماً موصولاً وصلته {بِيَمِينِكَ} قال الزجاج: معناه وما التي بيمينك، قال الفراء: معناه ما هذه التي في يمينك، واعلم أنه سبحانه لما سأل موسى عليه السلام عن ذلك أجاب موسى عليه السلام بأربعة أشياء، ثلاثة على التفصيل وواحد على الإجمال.
الأول: قوله: {هِىَ عَصَايَ} قرأ ابن أبي إسحاق: (هي عصي) ومثلها: (يا بشرى) وقرأ الحسن (هي عصاي) بسكون الياء والنكث هاهنا ثلاثة. إحداها: أنه قال: {هِىَ عَصَاىَ} فذكر العصا ومن كان قلبه مشغولاً بالعصا ومنافعها كيف يكون مستغرقاً في بحر معرفة الحق ولكن محمداً صلى الله عليه وسلم عرض عليه الجنة والنار فلم يلتفت إلى شيء: {مَا زَاغَ البصر وَمَا طغى} [النجم: 17] ولما قيل له امدحنا، قال: لا أحصي ثناء عليك ثم نسي نفسه ونسي ثناءه فقال: أنت كما أثنيت على نفسك.
وثانيها: لما قال: {عَصَاىَ} قال الله سبحانه وتعالى: {أَلْقَِهَا}، فلما ألقاها {فَإِذَا هِىَ حَيَّةٌ تسعى} ليعرف أن كل ما سوى الله فالالتفات إليه شاغل وهو كالحية المهلكة لك. ولهذا قال الخليل عليه السلام: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ العالمين} [الشعراء: 77] وفي الحديث: «يجاء يوم القيامة بصاحب المال الذي لم يؤد زكاته ويؤتى بذلك المال على صورة شجاع أقرع» الحديث بتمامه.
وثالثها: أنه قال هي عصاي فقد تم الجواب، إلا أنه عليه السلام ذكر الوجوه الأخر لأنه كان يحب المكالمة مع ربه فجعل ذلك كالوسيلة إلى تحصيل هذا الغرض.
الثاني: قوله: {أتوكأ عليها} والتوكي، والإتكاء، واحد كالتوقي، والإتقاء معناه اعتمد عليها إذا عييت أو وقفت على رأس القطيع أو عند الطفرة فجعل موسى عليه السلام نفسه متوكئاً على العصا وقال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: «اتكئ على رحمتي بقوله تعالى: {يا أيها النبي حَسْبُكَ الله وَمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين} [الأنفال: 64] وقال: {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} [المائدة: 67]» فإن قيل: أليس قوله: {وَمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين} يقتضي كون محمد يتوكأ على المؤمنين؟ قلنا قوله: {وَمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين} معطوف على الكاف في قوله: {حَسْبَكَ الله} والمعنى الله حسبك، وحسب من اتبعك من المؤمنين.
الثالث: قوله: {وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي} أي أخبط بها فأضرب أغصان الشجر ليسقط ورقها على غنمي فتأكله.
وقال أهل اللغة: هش على غنمه، يهش بضم الهاء في المستقبل، وهششت الرجل أهش بفتح الهاء في المستقبل، وهش الرغيف يهش بكسر الهاء. قاله ثعلب، وقرأ عكرمة: (وأهس) بالسين غير المنقوطة، والهش زجر الغنم، واعلم أن غنمه رعيته فبدأ بمصالح نفسه في قوله: {أتوكأُ عليها} ثم بمصالح رعيته في قوله: {وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي} فكذلك في القيامة يبدأ بنفسه فيقول: نفسي نفسي ومحمد صلى الله عليه وسلم لم يشتغل في الدنيا إلا بإصلاح أمر الأمة: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33]. اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون فلا جرم يوم القيامة يبدأ أيضاً بأمته فيقول: أمتي أمتي والرابع: قوله: {وَلِيَ فِيهَا مآرِبُ أخرى} أي حوائج ومنافع واحدتها مأربة بفتح الراء وضمها، وحكى ابن الأعرابي وقطرب بكسر الراء أيضاً، والأرب بفتح الراء، والإربة بكسر الألف وسكون الراء الحاجة، وإنما قال أخرى لأن المآرب في معنى جماعة فكأنه قال: جماعة من الحاجات أخرى ولو جاءت أخر لكان صواباً كما قال: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] ثم هاهنا نكت. إحداها: أنه لما سمع قول الله تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ} عرف أن لله فيه أسراراً عظيمة فذكر ما عرف وعبر عن البواقي التي ما عرفها إجمالاً لا تفصيلاً بقوله: {وَلِىَ فِيهَا مَآَرِبُ أخرى}.
وثانيها: أن موسى عليه السلام أحس بأنه تعالى إنما سأله عن أمر العصا لمنافع عظيمة. فقال موسى: إلهي ما هذه العصا إلا كغيرها، لكنك لما سألت عنها عرفت أن لي فيها مآرب أخرى ومن جملتها أنك كلمتني بسببها فوجدت هذا الأمر العظيم الشريف بسببها.
وثالثها: أن موسى عليه السلام أجمل رجاء أن يسأل ربه عن تلك المآرب فيسمع كلام الله مرة أخرى ويطول أمر المكالمة بسبب ذلك.
ورابعها: أنه بسبب اللطف انطلق لسانه ثم غلبته الدهشة فانقطع لسانه وتشوش فكره فأجمل مرة أخرى، ثم قال وهب: كانت ذات شعبتين كالمحجن، فإذا طال الغصن حناه بالمحجن، وإذا حاول كسره لواه بالشعبتين، وإذا سار وضعها على عاتقه يعلق فيها أدواته من القوس والكنانة والثياب، وإذا كان في البرية ركزها وألقى كساء عليها فكانت ظلاً. وقيل: كان فيها من المعجزات أنه كان يستقي بها فتطول بطول البئر وتصير شعبتاها دلواً ويصيران شمعتين في الليالي، وإذا ظهر عدو حاربت عنه. وإذا اشتهى ثمرة ركزها فأورقت وأثمرت. وكان يحمل عليها زاده وماءه وكانت تماشيه ويركزها فينبع الماء فإذا رفعها نصب وكانت تقيه الهوام.
واعلم أن موسى عليه السلام لما ذكر هذه الجوابات أمره الله تعالى بإلقاء العصا فقال: {أَلْقِهَا يا موسى} وفيه نكت، إحداها: أنه عليه السلام لما قال: {وَلِىَ فِيهَا مآرِبُ أخرى} أراد الله أن يعرفه أن فيها مأربة أخرى لا يفطن لها ولا يعرفها وأنها أعظم من سائر مآربه فقال: {أَلْقِهَا يا موسى * فألقاها فَإِذَا هِىَ حَيَّةٌ تسعى}.
وثانيتها: كان في رجله شيء وهو النعل وفي يده شيء وهو العصا، والرجل آلة الهرب واليد آلة الطلب فقال أولاً: {فاخلع نَعْلَيْكَ} [طه: 12] إشارة إلى ترك الهرب، ثم قال ألقها يا موسى وهو إشارة إلى ترك الطلب. كأنه سبحانه قال: إنك ما دمت في مقام الهرب والطلب كنت مشتغلاً بنفسك وطالباً لحظك فلا تكون خالصاً لمعرفتي فكن تاركاً للهرب والطلب لتكون خالصاً لي.
وثالثتها: أن موسى عليه السلام مع علو درجته، وكمال منقبته لما وصل إلى الحضرة ولم يكن معه إلا النعلان والعصا أمره بالقائهما حتى أمكنه الوصول إلى الحضرة فأنت مع ألف وقر من المعاصي كيف يمكنك الوصول إلى جنابه.
ورابعتها: أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان مجرداً عن الكل ما زاغ البصر فلا جرم وجد الكل، لعمرك أما موسى لما بقي معه تلك العصا لا جرم أمره بإلقاء العصا، واعلم أن الكعبي تمسك به في أن الاستطاعة قبل الفعل فقال: القدرة على إلقاء العصا، إما أن توجد والعصا في يده أو خارجة من يده فإن أتته القدرة وهي في يده فذاك قولنا: {وَأَنَّ الله لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ} [آل عمران: 182] وإذا أتته وليست في يده وإنما استطاع أن يلقي من يده ما ليس في يده فذلك محال، أما قوله: {فألقاها فَإِذَا هِىَ حَيَّةٌ تسعى} ففيه أسئلة: السؤال الأول: ما الحكمة في قلب العصا حية في ذلك الوقت؟ الجواب فيه وجوه:
أحدها: أنه تعالى قلبها حية لتكون معجزة لموسى عليه السلام يعرف بها نبوة نفسه وذلك لأنه عليه السلام إلى هذا الوقت ما سمع إلا النداء، والنداء وإن كان مخالفاً للعادات إلا أنه لم يكن معجزاً لاحتمال أن يكون ذلك من عادات الملائكة أو الجن فلا جرم قلب الله العصا حية ليصير ذلك دليلاً قاهراً والعجب أن موسى عليه السلام قال: أتوكأ عليها فصدقه الله تعالى فيه وجعلها متكأ له بأن جعلها معجزة له.
وثانيها: أن النداء كان إكراماً له فقلب العصا حية مزيداً في الكرامة ليكون توالي الخلع والكرامات سبباً لزوال الوحشة عن قلبه.
وثالثها: أنه عرض عليه ليشاهده أولاً فإذا شاهده عند فرعون لا يخافه.
ورابعها: أنه كان راعياً فقيراً ثم إنه نصب للمنصب العظيم فلعله بقي في قلبه تعجب من ذلك فقلب العصا حية تنبيهاً على أني لما قدرت على ذلك فكيف يستبعد مني نصرة مثلك في إظهار الدين.
وخامسها: أنه لما قال: {قَالَ هِىَ عَصَاىَ أَتَوَكَّؤُا} إلى قوله: {وَلِىَ فِيهَا مَآَرِبُ أخرى} فقيل له: {أَلْقَِهَا} فلما ألقاها وصارت حية فر موسى عليه السلام منها فكأنه قيل له: ادعيت أنها عصاك وأن لك فيها مآرب أخرى فلم تفر منها، تنبيهاً على سر قوله: {فَفِرُّواْ إِلَى الله} [الذاريات: 50] وقوله: {قُلِ الله ثُمَّ ذَرْهُمْ} [الأنعام: 91].
السؤال الثاني: قال هاهنا حية وفي موضع آخر ثعبان وجان، أما الحية فاسم جنس يقع على الذكر والأنثى والصغير والكبير، وأما الثعبان والجان فبينهما تناف لأن الثعبان العظيم من الحيات والجان الدقيق وفيه وجهان:
أحدهما: أنها كانت وقت انقلابها حية صغيرة دقيقة ثم تورمت وتزايد جرمها حتى صارت ثعباناً فأريد بالجان أول حالها وبالثعبان مآلها.
والثاني: أنها كانت في شخص الثعبان وسرعة حركة الجان، والدليل عليه قوله تعالى: {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ}.
السؤال الثالث: كيف كانت صفة الحية. الجواب كان لها عرف كعرف الفرس وكان بين لحييها أربعون ذراعاً، وابتلعت كل ما مرت به من الصخور والأشجار حتى سمع موسى صرير الحجر في فمها وجوفها، أما قوله تعالى: {قَالَ خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الأولى} ففيه سؤالات: السؤال الأول: لما نودي موسى وخص بتلك الكرامات العظيمة وعلم أنه معبوث من عند الله تعالى إلى الخلق فلم خاف.
والجواب من وجوه:
أحدها: أن ذلك الخوف كان من نفرة الطبع لأنه عليه السلام ما شاهد مثل ذلك قط. وأيضاً فهذه الأشياء معلومة بدلائل العقول.
وعند الفزع الشديد قد يذهل الإنسان عنه.
قال الشيخ أبو القاسم الأنصاري رحمه الله تعالى وذلك الخوف من أقوى الدلائل على صدقه في النبوة لأن الساحر يعلم أن الذي أتى به تمويه فلا يخافه ألبتة.
وثانيها: قال بعضهم: خافها لأنه عليه السلام عرف ما لقي آدم منها.
وثالثها: أن مجرد قوله: {لاَ تَخَفْ} لا يدل على حصول الخوف كقوله تعالى: {وَلاَ تُطِعِ الكافرين} [الأحزاب: 1] لا يدل على وجود تلك الطاعة لكن قوله: {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ ولى مُدْبِراً} [النمل: 10] يدل عليه، ولكن ذلك الخوف إنما ظهر ليظهر الفرق بينه وبين محمد صلى الله عليه وسلم فإنه عليه السلام أظهر تعلق القلب بالعصا والنفرة عن الثعبان، وأما محمد عليه السلام فما أظهر الرغبة في الجنة ولا النفرة عن النار.
السؤال الثاني: متى أخذها، بعد انقلابها عصا أو قبل ذلك.
والجواب: روي أنه أدخل يده بين أسنانها فانقلبت خشبة والقرآن يدل عليه أيضاً بقوله: {سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الأولى} وذلك يقع في الاستقبال، وأيضاً فهذا أقرب للكرامة لأنه كما أن انقلاب العصا حية معجزة فكذلك إدخال يده في فمها من غير ضرر معجزة وانقلابها خشباً معجز آخر فيكون فيه توالي المعجزات فيكون أقوى في الدلالة.
السؤال الثالث: كيف أخذه، أمع الخوف أو بدونه.
والجواب: روي مع الخوف ولكنه بعيد، لأن بعد توالي الدلائل يبعد ذلك. وإذا علم موسى عليه السلام أنه تعالى عند الأخذ سيعيدها سيرتها الأولى فكيف يستمر خوفه، وقد علم صدق هذا القول وقال بعضهم لما قال له ربه: {لاَ تَخَفْ} بلغ من ذلك ذهاب خوفه وطمأنينة نفسه إلى أن أدخل يده في فمها وأخذ بلحييها.
السؤال الرابع: ما معنى سيرتها الأولى، والجواب: قال صاحب الكشاف: السيرة من السير كالركبة من الركوب يقال: سار فلان سيرة حسنة ثم اتسع فيها فنقلت إلى معنى المذهب والطريقة.
السؤال الخامس: علام انتصب سيرتها، الجواب فيه وجهان:
أحدهما: بنزع الخافض يعني إلى سيرتها.
وثانيهما: أن يكون سنعيدها مستقلاً بنفسه غير متعلق بسيرتها بمعنى أنها كانت أولاً عصا فصارت حية فسنجعلها عصا كما كانت فنصب سيرتها بفعل مضمر أي تسير سيرتها الأولى يعني سنيعدها سائرة بسيرتها الأولى حيث كنت تتوكأ عليها ولك فيها المآرب التي عرفتها.


{وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آَيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آَيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24)}
اعلم أن هذا هو المعجزة الثانية وفيه مسائل:
المسألة الأولى: يقال لك ناحيتين جناحان كجناحي العسكر لطرفيه وجناحا الإنسان جنباه والأصل المستعار منه جناحا الطائر لأنه يجنحهما عند الطيران، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما إلى جناحك إلى صدرك والأول أولى لأن يدي الإنسان يشبهان جناحي الطائر لأنه قال: {تَخْرُجْ بَيْضَاء} ولو كان المراد بالجناح الصدر لم يكن لقوله: {تَخْرُجْ} معنى واعلم أن معنى ضم اليد إلى الجناح ما قال في آية أخرى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} [النمل: 12] لأنه إذا أدخل يده في جيبه كان قد ضم يده إلى جناحه، والله أعلم.
المسألة الثانية: السوء الرداءة والقبح في كل شيء فكنى به عن البرص كما كنى عن العورة بالسوأة والبرص أبغض شيء إلى العرب فكان جديراً بأن يكنى عنه يروى أنه عليه السلام كان شديد الأدمة فكان إذا أدخل يده اليمنى في جيبه وأدخلها تحت إبطه الأيسر وأخرجها كانت تبرق مثل البرق وقيل مثل الشمس من غير برص ثم إذا ردها عادت إلى لونها الأول بلا نور.
المسألة الثالثة: بيضاء وآية حالان معاً ومن غير سوء من صلة البيضاء كما تقول ابيضت من غير سوء وفي نصب آية وجه آخر وهو أن يكون بإضمار نحو خذ ودونك وما أشبه ذلك حذف لدلالة الكلام، وقد تعلق بهذا المحذوف لنريك أي خذ هذه الآية أيضاً بعد قلب العصا لنريك بهاتين الآيتين بعض آياتنا الكبرى أو لنريك بهما الكبرى من آياتنا أو لنريك من آياتنا الكبرى فعلنا ذلك، فإن قيل الكبرى من نعت الآيات فلم لم يقل الكبر؟ قلنا: بل هي نعت الآية والمعنى لنريك الآية الكبرى ولئن سلمنا ذلك فهو كما قدمنا في قوله: {مَآَرِبُ أخرى} [طه: 18]، و{الأسمآء الحسنى} [طه: 8].
المسألة الرابعة: قال الحسن: اليد أعظم في الإعجاز من العصا لأنه تعالى: ذكر {لِنُرِيَكَ مِنْ ءاياتنا الكبرى} عقيب ذكر اليد وهذا ضعيف لأنه ليس في اليد إلا تغير اللون، وأما العصا ففيه تغير اللون وخلق الزيادة في الجسم وخلق الحياة والقدرة والأعضاء المختلفة وابتلاع الحجر والشجر، ثم عاد عصا بعد ذلك. فقد وقع التغير مرة أخرى في كل هذه الأمور فكانت العصا أعظم، وأما قوله: {لِنُرِيَكَ مِنْ ءاياتنا الكبرى} فقد بينا أنه عائد إلى الكل وأنه غير مختص باليد.
المسألة الخامسة: أنه سبحانه وتعالى لما أظهر له هذه الآية عقبها بأن أمره بالذهاب إلى فرعون وبين العلة في ذلك وهي أنه طغى، وإنما خص فرعون بالذكر مع أن موسى عليه السلام كان مبعوثاً إلى الكل لأنه ادعى الإلهية وتكبر وكان متبوعاً فكان ذكره أولى.
قال وهب: قال الله تعالى لموسى عليه السلام: «اسمع كلامي واحفظ وصيتي وانطلق برسالتي فإنك بعيني وسمعي وإن معك يدي وبصري وإني ألبستك جنة من سلطاني لتستكمل بها القوة في أمري أبعثك إلى خلق ضعيف من خلقي بطر نعمتي وأمن مكري وغرته الدنيا حتى جحد حقي وأنكر ربوبيتي، وإني أقسم بعزتي لولا الحجة والعذر الذي وضعت بيني وبين خلقي لبطشت به بطشة جبار ولكن هان علي وسقط من عيني فبلغه عني رسالتي وادعه إلى عبادتي وحذره نقمتي: وقل له قولاً ليناً لا يغترن بلباس الدنيا فإن ناصيته بيدي، لا يطرف ولا يتنفس إلا بعلمي، في كلام طويل، قال فسكت موسى سبعة أيام لا يتكلم ثم جاءه ملك فقال أجب ربك فيما أمرك بعبده».

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8